مسرح الصواري في البحرين يختار التجريب الشامل
المنامة - عباس أحمد الحايك – صحيفة الحياة - 2004/01/1

يعمل مسرح "الصواري" البحريني منذ تأسيسه عام 1991 مختبرياً على رفد الحركة المسرحية في البحرين والخليج بتجارب تتجرد من الأعراف المسرحية السائدة, وتدخل في نطاق التجريب والتجديد. فـ"الصواريون" يسعون وفق طموحاتهــم وهوسهم بالمسرح إلى دفــع مسرحهم نحو اكتمال النضج المعرفي والفكري لخلق ذائقة مثقفة لـدى الجمهور, عبر عروضهم المتميزة التي شاركت في مهرجانات عربية وعالمية وحظيت بالاهتمام. وحاز جائـزة الإخراج المخرج عبدالله السعداوي عن مسرحية "الكمامة" في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي 1994, ضمن انشغاله بالقراءات المنتجـة لرؤية خلاقة للنصوص المسرحية.

ولا بد من التركيز هنا على انشغالهم بتجاوز العلبة الإيطالية كفضاء للعرض. فبين الظروف الـــتي لــم توفر لهم قاعة عرض مسرحية ينثرون عليها ثمار تمسرحهم, وبين الحاجة التقنية, يختلقون فــي تجاربهــم فضـــاءات جديدة انطلاقــاً من المتطلب المسرحي للعرض. فمـــن بين المسرحيات التي قدمت خارج العلبـة مسرحية "إسكوريال" إخراج السعداوي عن نـــص ميشيل دي جيلدرود, وشاركت بـــه الفرقة في مهرجان القاهرة للمسـرح التجريبي - 1993, وقدم في بيت قديم. ومسرحية "ميلاد شمعة" تأليف (وإخراج) يوســـف حمدان وعرضت في رواق قديم, ومسرحية "الكمامة" - السابقة الذكر - عن نص ألفونسو ساستري, وعرضت في مقر الفرقة الذي هو أقرب إلى البيــت العادي, ومن ثم "القربان" عن "مأساة الحلاج" لصلاح عبدالصبــور وأخرجهــا السعداوي, وقدمت قلعة عـــراد في جزيرة المحرق, وفي قصر الغوري التراثي في القاهـــرة. أما مسرحية "الكارثة" فعرضــت فــي مدخــل أرض المعارض كفعالية موازية لمعرض الكتـاب الدولي 2002, ومسرحيتا "ابني متعصب" للقاص حنيف قريشي و"بورتريه جلاد" للقاصـــة غالية قباني وهما مسرحيتــان سرديتان, والمسرحيـات الثلاث للمخرج عبدالله السعداوي, وآخر عروض "الصواري" التــي أزاحــوا فيها العلبــة الإيطاليــة كفضــاء للعرض هي مسرحية "حب بطعم الشوكولا" تأليف السعداوي, وإخراج خالد الرويعي الذي شــارك فــــي التأليف, وتمثيـــل حسين العريبــي, نجيب جلال, ولمياء الشويـــخ, وسينوغرافيا محمود الصفار والرويعي نفســه, وقــد عرضــت في مقر المسرح في بناية تتألف من ثلاث طبــقات ويشغــلون فيــه الطابــق الأخــير. والعـــرض الآخــر "طال الأمر" وهو من تأليــف وليد إخلاصــي وإخــراج ابراهيم خلفــــــان وتمثـيل محــمد الصفار ورانيا غـــازي قدم في كواليـــس مســرح مدرســة الشيخ عبدالعزيز في العدلية.

إنها أقرب إلى حجرة الجلوس, ساحة لحوارات أو نقاشات "الصواريين" حول المسرح والحياة, وها هي تحال بين معاول التجربة إلــى فضاء مسرحي. وعلى رغم ضيقها النسبي, يعاد صوغها لتتسع لاشتغالات الرويعي وجنوحه عن كلاسيكية العلبة الايطاليـــة. فهــو يعيــد هندسة الحجرة وتفاصيلــها, فــي عرض يبحث عن الغربة "غربة الأشياء وخصوصاً غربة الواقع المركـــــــــب والمتهالك, وغربة هذا الإنسان العالق بين المعنى الكلي لمفهـــوم الكون ومفــهوم العالــم". حكايــة زوجين متحابين وغربة علاقتهما, وفقدان إحساسهما بحميميتها. ينزع الرويعي في هذا العرض إلى الاتكاء على السينوغرافيا بصفتها دلالات تبث شفراته. فالسمعي البصري في بعديهمـــا الدلالي والجمالي جنباً إلى جنب مع الحــوارات المنطوقــة يؤسســان لتلقــــيه. فالحجرة - فضاء العرض - تندغـــم وتفاصيلهــا فــي قتامــة الأســود الذي يغطي الجدران والسقـوف وحتى الأرض, والظلام الدامس, وكنا كمتلقين نتلمـــس طريقــنا الى كراسي المتفرجـــين الثلاثـين المصفوفة عبر كشاف صغير جداً لا يوضح المعالــم, إمعاناً فــي غربــة المكــان, وبرودة العلاقات الإنسانية لشخوص العرض. يبدأ العرض بالراوي الذي أزاح فيه الرويعي الجســد البشري واستبدله بجهاز الكومبيوتر, إذ نقرأ الحــدث عبــر شاشتـه السوداء المكبرة ولا نسمعه على لسان ممثل. انها إزاحة لنمطية الراوي على المسرح, والذي أصبح شخصية مكرورة وإن كانت الحاجة تستدعيها, إضافة إلى ربط الأحداث والمشاهد عبر كــلام النــادل عــن الدودة والسمكة, للكاتــب الإيطـالــي ستيفانو بيني, الذي يبدو للوهلة الأولى غير متوافق مـع مجريــات الحــدث المسرحــي ومنفصلاً عنه, إلا أن علاقة الدودة بالسمكة هي ذاتها علاقة الزوجين المتغيرة, وحواره تأطير لهذه العلاقة.

ولعلّ استخدام الرويعي لمفردات بصرية وسمعية كالفيديو لعرض بعـض المشاهد بغية ملء ثغرات الحوار, كمشهد الزواج, والصور المتحركة للممثلين الرئيسيين في أوضاع مختلفة, ولعبة الإضـاءة المكملــة لجمالية العرض, وسمعيــة مــن خلال موسيقى نادر أمير الدين وأدائه وأداء نور الزياني الغنائي, أعطى العرض والمكان المعاد صوغه بعده الجمالي, ومفردات حفزت حاسة التلقي واختصرتها في هذه المساحة بكل تفاصيلها, وبزوايا الرؤية التي اتسعت وضاقت في آن واحد, وتركت في الذاكرة أسئلة تلتقي مع مقولة العرض: "هل العالم فعلاً أصبح قرية صغيرة أم نحن الذين تضخمنا بما يكفي لأن نرى العالم كله صغيراً لا يسعنا؟".

"طال الأمر", عرض آخر لفرقة "الصواري", يروي ويلات الحــروب ومــا تفرزه من انتكاسات نفسية للبشر, الى حد فقدان الرغبة في الحياة, من خلال زوجين عجوزين يسكنان في الطابق السادس فــي إحــدى البنايات التي تطل علــى ساحــة تمتلئ بالجثث جراء الحرب. حكاية مجردة من الزمان والمكان, فهي حكاية الإنسان تحت طائلة الحرب, أي حرب.

إعلان العرض يشي بأن "الصواريين" يعودون إلى اشتغالات العلبة الإيطالية (مسرح مدرســة الشيــخ عبدالعزيز), لكن حـــال الدخــول إلى الصالة لا يلحظ المشاهد سوى سقالات وأغطية زرقاء كبيــرة, ولا كراسي للمتفرجين, وقبل بداية العرض بدقائق يرشدنا مخرجه إلى باب يفضي إلى كواليــس المســرح التــي أحالها خلفان إلى فضاء مسرحـي قالــباً معادلة التلقـي المألوفــة, حيث يدخل فضاء المسرح إلـــى عمـــق الخشبــة ولكن مـن الخلــف, وتتحول الكواليس إلى مساحة تتوزع فيها كراسي المتفرجين التي لا تتجاوز الثلاثين, والفضاء المغلق الغامض غموض الآتي, المصـــوغ من أخشاب قديمة يبدو عليهــا الاهتراء, دلالة اهتـراء الروح الإنسانية تحت وطأة الظروف. أغــراض تجمعها الفوضى, دلالة فوضى الحرب, إضاءة لشموع تتوزع في زوايا المكان. وعــبر الشفــرات البصرية والسمعية - عزف كونترباص حزين - التي يرسلها العرض, وعبر أداء الممثلين الذي يتبايــن بين التماعات أداء محمد الصفار ونمطية رانيا غازي, على رغم قدراتها المسرحية المعروفة, يدخل المتلقي في سيرورة الحدث متعاطفاً مــع هاتين الروحين الممزقتين. وعلى رغم تجاوز المألوف فــي فضاء العرض, إلا أن الديكور الأقرب إلى شكل كــوخ, وإن كــان متسقــاً مع مقولة العــرض جــاء متكلفــــاً في صيغته النهائية. ويحســـب لخلفان الذي رشح لجائزة الإخراج في مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي - 2003 عن عرضه "يوم نموذجي", اختباره لفضاء العرض, متجاوزاً ظرف الفرقة في عدم توافر خشبة عرض مناسبة, وظرف الجمهور الذي يبحث عن السائد في المسرح.

عرضان ينمان عن وعي متقد لشباب مسرح "الصواري" الحديث التأسس, يركزون اشتغالهم وتجاربهم المسرحية على مبدأ التجريب والتجديد, انطلاقاً من هوسهم بالمسرح والفكر الذي يدعم توجههم, واختبارهم للفضاء, والنصوص وأداء الممثل... كل هذا يعطي بصيص أمل في مسرح طليعي وسط فوضى الحياة.